أبدا لا اجيد صياغة البدايات ولكن أراني موهوب في رؤية النهايات.
تبدأ القصة بشرى في أحد اقدم نوادي القاهرة الليلية المجاورة لميدان التحرير, اعتدت ارتياد المكان بصحبة صديقتي التي تمنيت ان تصبح شريكة حياتي ورفيقة دربي, أحسست بغيابها في اركان المكان الضيق الذي اكتظ بالمحتفلين بليلة من ليالي القاهرة, ولكن لم يعطلني هذا عن فعل ما اعدت فعله فشربت ورقصت.
اخلد إلى النوم وإذا بأشعة الشمس تداعبني فالساعة الآن الحادية عشر صباحا, أمسكت بهاتفي وطلبت أستاذ مجدي اخبره بأني فوت ميعاد تصوير أحد الناس الذي كان في السابعة صباحا فأخبرني بالقدوم على الفور إلى المكتب لننظر في الأمر, أصل إلى المكتب اجده متجهما لضياع احد مواعيد العمل المهمة, تتعدل الأقدار ونجد فرصة لتصوير مافاتني تصويره ونزلت على الفور متجها إلى غمرة حيث سأقابل المحررة ياسمين التي ستجري الحوار مع الشخص المراد تصويرة.
نصل أنا وياسمين إلى منزل بسيط وضع على بوابته صورة نعتاد الآن على رؤيتها تحمل كتابة "الشهيد: سامح احمد - شهيد الحرية", وفي الدور الخامس للمنزل يستقبلنا رجل اضعف جسمة الزمن وسيدة تساعده في الوصول إلى كرسية في غرفة الصالون, الرجل هو والد الشهيد سامح احمد, والسيدة هي الأم, ما هي الا نصف ساعة وانتهي من تصوير الرجل وزوجته والبيت الهادئ المتواضع المليء بشهادات التقدير وصور الشهيد, فقد فتح الرجل قلبة وبيته وتوارت الأم قليلا عن نظري الا ان أحضرت الشاي وكان بداية كلامي اليها "تسلم الأيادي يا ماما" وهنا بدأ الدموع في الإختلاط بإبتسامة ارتسمت على وجهها.. أخبرني انها افتقدت إحساس الأمومة لغياب سامح الذي لمست وجوده بالرغم من غيابه, لمست وجود سامح في ايمان والدته التي طبعت صورته على سجادة الصلاه لتلمس هي الأخرى وجوده قريبا منها في كل سجدة, لظروف العمل اترك المكان ويقف الرجل وزوجته في شرفة المنزل ملوحين لنا بالسلام, اردت الزيارة مرة اخرى ولكن تأخذني الحياه إلى صراعات متفرقة اخوضها املا في مستقبل افضل ولكن ابدا ما نسيت.
لا يعوض أحد غياب الآخر ولكن نستطيع المرور سويا إلى ما هو اعمق من غياب الجسد, نعيش على هذه الأرض وتنسينا دنيانا ماهية الحياه وتزعزع يقيننا بالشك, لذلك نريد دوما ما يثبت اليقين ويعمق الايمان.
تمر الايام وفي نهار جديد ابحث عن بعض الموسيقى لنسمعها في المكتب وأسمع بدلا منها صوت ا/رندا -العائدة من عطلتها السنوية- قائلة "حلوة صور أهل الشهيد سامح يا صبري" وهنا تستيقظ ذكريات اللقاء داخلي واتذكر وعدي لهم بزيارة اخرى, اخذت افكر في شيء قد يفيد القضية والناس فنحن هنا من اجل بعضنا البعض, وقررت ان أبدأ مشروع مصور عن أهالي الشهداء وحواديت تختبئ خلف تلك الأسماء الكثيرة في دفاتر الحكومة تحت مسمى "شهداء" .
من أين أبدأ وكيف أبدأ؟ تذكرت اني لست جيد فيما يتعلق بالبديات, وقررت ترك الأمر ليقودني فيه إحساسي أو الصدف, ولكن لم يمنعني قراري عن البحث والتنقيب في دفاتر مستشفى احمد ماهر عن واحد من تلك الأسماء التي اكتظت بها ذاكرتي ولكن ام أنسى رغم مرور سنتين كيف كان حضن والدة الشاب الذي شاهدته يفارق الحياه داخل جدران غرفة العمليات ووقع عليَّ الإختيار لأخبر والدته التي رأتني متجها ناحيتها انظر إلى خطواتي الضيقة الثقيلة وما كان منها الا انها ضمتني اليها, اعتقد من كلفني بالمهمة انها ازالت عني مشقة الإخبار ولكن مايجهله انه زاد العبء اضعافا, فكرت ان مع سيدة مثلها لن احتار في بداية لأن الجليد كان قد ذاب ولكن يبدو أنني اتيت متأخرا, والتزمت بقراري ان اترك كل شيء "كده".
تأخذني الحيرة والتخبط أحيانا كثيرة وتتضارب قراراتي, فكرت في البدء من من هو قريب مني, الشهيد عاطف يحيى.. شهيد مظاهرة ذكرى النكبة في احداث سفارة اسرائيل الاولى, صديقي الذي غيرت قصته مسار حياتي, وفي نفس الوقت يتغير تفكيري وأقرر تأجيل الزيارة إلى ان استطيع ترتيب الأفكار, هو هروب أو هروب.
يفعل بنا غيابهم بنا ما يفعله ولكن نلمسهم في جمالهم الذي تركوه لنا ليجدد الأمل ويؤكد اليقين, هم ابن واب وأخت هم بنت وام واخ هم حبيب وحبيبة هم حكاية خلف كل حكاية, هم من يدفعونا لتقدير معنى غيابهم هم من يشعرونا انهم معنا هنا في مكان ما.
يأتي يوم ثقيل يغلب عليه الصمت وإحساس ال "ولا حاجة" وأقرر اللعب والإستمتاع بمسيره كما كنت افعل كمواطن وليس كصحفي, فرصة لأرى مالا اراه من خلال عدستي, تسير المسيرة ببطء شديد فانتابني الملل وأسرعت خطواتي كالعادة وامام مدرسة الخديوية أرى لافته تحمل صورة شهيد وعلى الرصيف المقابل يقف رجل داكن البشرة ابيض الشعر يمسك بيد سيدة يجاورهم شاب يحمل لافتة عليها نفس صورة الشهيد, الشهيد اسمه "احمد صالح" اتوجة مسرعا ناحية الرجل سائلا "حضرتك والد احمد؟" أكد الرجل مبتسما وابتسمت السيدة التي لم اميز ملامحها لكثرة الظلال على وجهها, وضع يده على كتفي يوجهني ناحية مبنى قائلا "ده بيت اخوك احمد, أنا بنزل في كل مسيرة بتعدي من هنا عشان افكر الناس بيه" قلبي ارتاح, طلبت على الفور زيارة وماكان منه الا الترحيب مكررا عبارة "طبعا يابني ده بيت اخوك".. اخلد إلى النوم على في انتظار ان تداعبني الشمس كما اعتادت ان تفعل لأرى إن كنت ساجيد البداية واتحلى بالشجاعة.. ساعات طويلة بين اشياء غير مفهومة احيانا وكوابيس احيانا اخرى, وتداعب الشمس عيني معلنة بداية يوم جديد وقصة جديدة.
بيت مفتوح وقلوب منورة
كلمات مقتضبة تصف مارأيته بقلبي قبل عيني على غير العادة, أم تنظر من خلف ستار مرحبة بضيوف شاب وشابه, رجل ينفث دخان سجارته بعيدا عن مسار ضيوفه مرحبا بهم في بيت اخوهم... راحة.. ببساطة
سألني عن مشروعي وأخبرته ومن قبل أخبرته من أكون, وسألته.. "مين هو احمد؟" وكان السؤال الاول والأخير, كما أحسست أنا بالراحة اعتقد انها وصلت اليهم, تركوا نفسهم للحكاية والتفاصيل, استرجعنا سويا كل التفاصيل, التواريخ والظروف والناس, رأيت احمد في دموع أمه عندما تحدثت, رأيت احمد في كبرياء والده الذي أبى ان ترى أم احمد دموعه واتجه إلى خلف الستار عندما اشتدت حدة التفاصيل, كنت قد فهمت ان عهدها به صلب, فهو "الحاج" رأيت احمد في تفاصيله التي خلفها وراءه لتشعر أمه بالونس, ظهر احمد في بخاخة الخميرة والكمامات الموجودة بجوار امه, فكان هناك يسعف المختنقين من غاز النظام.. كانت تتحدث مبتسمه عن الشباب في الحارة وعن الأطفال الذين اعتادوا صحبة ابن العشرين احمد صالح, لمست أنا احمد ورأيته يبتسم لي من خلف صورة له أتت أمامي عندما نزلت على ركبتي ممسكا بيد أم احمد عندما بكت... وبكيت, أذهلتني عندما اكتشفت مجتمع أهالي الشهداء المختفي بعيدا عن اعين العابثين يكتفون بدفء غياب أحبابهم سويا.. فقد كانت ممن حضروا عيد ميلاد الشهيد جابر.. جيكا.. رصدت مااتيح لي بالكاميرا, أحضان دافئة اشكر غياب احمد عليها.. تركت البيت المفتوح والقلوب المنورة مبتسمين على وعد لقاء آخر قريب.
لا ادري كيف هي الصور, ولكن مايهمني اني أرى بطريقة مختلفة الآن.. واعلم جيدا اين أنا من الصراع, واعلم أيضا كيف يكون الغياب..
اتغسلت.. كان شعوري و كان ماأخبرتها ونحن ناخذ نصيبنا من يوم في هذه الحياه سويا.. في غياب.
|
الشهيد جيكا وهو بيحضر عيد ميلاده |
.